فصل: تعدد المنزل والسبب واحد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.تعدد المنزل والسبب واحد:

قد يكون الأمر الواحد سببا لنزول آيتين أو آيات متعددة متفرقة، وذلك عكس ما تقدم، ولا إشكال في ذلك، ولا بعد؛ فقد ينزل في الوقعة الواحدة آيات عديدة في سور شتى، تبيانا وإرشادا للخلق، وإقناعا للسائل.
1- من أمثلة ذلك- السبب الواحد تنزل فيه الآيتان- ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه لّا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله...، فجاء ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله؛ لو أستطيع الجهاد لجاهدت- وكان أعمى- فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95- 96].
وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن زيد بن ثابت أيضا قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لواضع القلم على أذني، إذ أمر بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاء أعمى فقال: كيف لي يا رسول الله وأنا أعمى، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91].
2- ومن أمثلته أيضا- السبب الواحد تنزل فيه أكثر من آيتين- ما أخرجه الترمذي والحاكم، عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ...} [آل عمران: 195].
وأخرج الحاكم عنها- أيضا- قالت: قلت: يا رسول الله، تذكر الرجال ولا تذكر النساء، فأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ...} [الأحزاب: 35]، وأنزلت: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى...} الآية.
وأخرج أيضا عنها أنها قالت: تغزو الرجال، ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله سبحانه: {وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ} [النساء: 32] وأنزل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ...} الآية.
فالظاهر أن واقعة السؤال واحدة، وأن الآيات الثلاث نزلت بعد هذا السؤال؛ ولا يبعد هذا اختلاف صيغة السؤال؛ لجواز أن يكون سؤالها عامّا شاملا لكل ما روي، ولكن الراوي اقتصر على بعض السؤال دون بعض، أو تذكر بعضه ونسي البعض.
3- ومن أمثلته ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان، فطلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك»، فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا...} [التوبة: 74].
وأخرجه أحمد والحاكم بهذا اللفظ، وآخره: فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ...} [المجادلة: 18].
وهذا البحث الذي حرره الإمام السيوطي واستخرجه بفكره من صنيع الأئمة ومتفرقات كلامهم من الحسن بمكان.

.عموم اللفظ وخصوص السبب:

هذا الموضوع من الموضوعات التي عني بها الأصوليون في كتبهم؛ وذلك لأنهم ينظرون في حال الأدلة من حيث إفادتها للأحكام من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد ونحو ذلك، وقد يكون الدليل عامّا مع خصوص السبب فيحتاج الأصولي إلى بيان حال الدليل من حيث كونه يتخصص بسببه أو يعم باعتبار لفظه، ولا نظر للسبب إلا من حيث أن الأفراد التي بتناولها الدليل العام تكون من نوع ذلك السبب، وهو مع كونه من مباحث علم الأصول، فهو بسبب وثيق من مباحث أسباب النزول الذي هو من أنواع علوم القرآن.
وقبل أن نفصل الخلاف في هذا الموضوع نذكر أحوال كل من السبب واللفظ النازل عليه من عموم وخصوص فنقول: القسمة العقلية تقتضي أربع صور وهي:
1- أن يكون كل من السبب واللفظ النازل عليه خاصّا.
2- أن يكون كل من السبب واللفظ النازل عليه عامّا.
وهذان القسمان ليسا محل خلاف بين العلماء؛ لأن المطابقة حاصلة بين السبب الذي هو بمنزلة السؤال وبين اللفظ المنزل عليه الذي هو بمنزلة الجواب له.
3- أن يكون السبب عامّا واللفظ النازل عليه خاصّا وهذا القسم وإن صح عقلا لكنه لا يجوز بلاغه لعدم وجود التطابق بين السبب الذي هو بمنزلة السؤال واللفظ النازل عليه الذي هو بمنزلة الجواب له فيكون بمنزلة من يقول هل للمسلمين أن يفعلوا كذا فيجاب بأن لفلان أن يفعل كذا ويترك حال الباقين، ومن ثم لم يقع هذا في الكلام البليغ كالقرآن والسنة.
4- أن يكون السبب خاصّا واللفظ النازل عليه عامّا، وهذا القسم جائز عقلا وواقع فعلا إذ لا ضير فيه ولا خلل بل هو أتم وأوفى بالمقصود قال الزمخشري في تفسيره سورة الهمزة: يجوز أن يكون السبب خاصّا والوعيد عامّا ليتناول كل من باشر ذلك القبيح وليكون ذلك جاريا مجرى التعريض.
وهذا القسم هو محط اختلاف العلماء، فذهب الجمهور من العلماء إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فحادثة خولة بنت ثعلبة التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت كانت سببا لنزول آيات الظهار، وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ} [المجادلة: 2- 4]، فاللفظ النازل عام: لأنه اسم موصول، وهو من صيغ العموم ويدخل تحت هذا العموم خولة ومن كان على شاكلتها ممن يظاهر منهن، وحادثة هلال بن أمية الذي رمى امرأته بشريك بن سحماء قد نزل بسببها آيات اللعان هي: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} [سورة النور: 6- 9] الآيات، فاللفظ النازل عام وهو شامل لمن نزلت فيه الآية ولغيره ممن هو على شاكلته، هذا هو رأي الجمهور.
وذهب غير الجمهور إلى أن العبرة بخصوص السبب يعني: أن لفظ الآية يكون قاصرا على من نزلت بسببه الآية، فآيات الظهار مثلا لفظها خاص بخولة بنت ثعلبة ومظاهرة زوجها منها.
وآيات اللعان لفظها خاص بهلال بن أمية، أما حكم غيرهما ممن يشبههما فلا يكون مستفادا من لفظ الآية إنما يستفاد بطريق القياس أو بالاجتهاد لدخوله تحت القاعدة المعروفة عند الأصوليين وهي: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة.

.تنبيهات:

1- ينبغي أن يلاحظ أن هذا الخلاف القائم بين الجمهور وغيرهم محله إذا لم تقم قرينة على تخصيص لفظ الآية العام بسبب نزوله أما إذا قامت تلك القرينة فإن الحكم يكون مقصورا على سببه لا محالة بإجماع العلماء.
2- لا يتوهمن متوهم أن غير الجمهور يقولون بعدم عموم أحكام الآيات النازلة على أسباب خاصة فالكل من الجمهور وغيرهم متفقون على عموم أحكام هذه الآيات غير أن الجمهور يقولون: إن العموم مستفاد من اللفظ أما غير الجمهور فيقولون: إن صورة السبب معلومة من اللفظ قطعا أما غير صورة السبب فحكمها مستفاد بالقياس أو الاستدلال كما ذكرنا.
قال الإمام تقي الدين أحمد بن تيمية في أصول التفسير ما ملخصه:
قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا لاسيما إذا كان المذكور شخصا.
كقولهم إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس بن شماس، وأن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وأن آية: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} نزلت في بني قريظة والنضير ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال:
إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كان أمرا أو نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته.

.ثمرة الخلاف بين الجمهور وغيرهم:

وثمرة هذا الخلاف ترجع إلى أمرين:
1- أن الحكم على أفراد غير السبب مدلول عليه بالنص النازل فيه عند الجمهور، وذلك النص قطعي الثبوت اتفاقا، وقد يكون مع هذا قطعي الدلالة أما غير الجمهور فالحكم عندهم على غير أفراد السبب ليس مدلولا عليه بالنص بل بالقياس أو الاستدلال بالكلمة المعروفة عند الأصوليين وكلاهما غير قطعي.
2- أن أفراد غير السبب يتناولها الحكم عند الجمهور ما دام اللفظ قد تناولها، أما غير الجمهور فلا يسحبون الحكم إلا على ما استوفى شروط القياس دون سواه إن أخذوا فيه بالقياس.